تحمّلك للمسؤولية تجاه ذاتك هو أول دليل على ارتفاع مستوى نضج عقليتك، وأول مدخل نحو اتزانك الداخلي.
أن تكون ناضجًا لا يعني فقط أن تكبر في عمرك أو تحقّق إنجازات، بل أن تملك الدراية والجرأة في مواجهة ذاتك بصدق و أن تعترف بأهمية ودلالة أفكارك وأن تفهم تصرفاتك بشكل واضح وتحملك نتائج اختياراتك مهما كانت النتائج .
فكلما زادت قدرتك على تقبل أو تحمّل تبعات قراراتك، كلما أصبحت أكثر وضوحا في وعيك، عندما تتحمل أعباء قراراتك ينخفض إلقاءك اللوم على ذاتك أو الظروف أو الآخرين.
حين تتحمّل مسؤوليتك عن ذاتك، تبدأ رحلتك الحقيقية من مواجهة ذاتك بشكل سلبي ، وتصبح أكثر قدرة على تقبل التغيير والنمو بثقة وثبات في خطواتك وتصرفاتك .
تحملك مسئولياتك تجاه ذاتك
اذا اعتبرت لومك لذاتك أو اسقاطك اللوم على الظروف وبدأت تبرر قراراتك فأنت تقر بقصد أو بغير قصد بغياب وعيك أو ضعف أداءك.
تحمُّل المسؤولية نعني به هو أن تعترف بدورك في كل ما يحدث ودورك في قيامك بردة فعلك باختيار واعي.
لقد أكّدت الأبحاث الخاصة في بناء العقليات النفسية الحديثة أن الأشخاص الذين يتحمّلون مسؤولية ذواتهم يتمتعون بصحة ذهنية ووعي أعلى، ويملكون شعور أعمق بالرضا عن حياتهم.
عندما تفكر بتروي وتأني تستطيع التخلي عن العيش في عقلية الضحية ، وتتوقف عن العيش في الماضي ، وينشأ في وعيك العقلي ادراكك لدورك في تشكيل حاضرِك وصناعة مستقبلك.
مثل هذا الإحساس يثير رغبتك بالفاعلية ويمنحك قوة ذهنية داخلية، ويجعلك أكثر قدرة على التكيف في مواجهة الظروف وأكثر دراية في تفاصيل قرارتك، واستعدادا لتقبل التغيير لنظرتك لذاتك وللاخرين .
الخطوة الأولى تبدأ بالوعي الذاتي
معرفتك بوعيك ليس مجرد معرفة سطحية لصفاتك الشخصية أو عاداتك اليومية، بل هو فهم عميق لقصدك مع كل سلوك تقوم به، وتحليلك بدقة لدوافعك.
عندما تتحمّل مسؤوليتك تجاه أهدافك وتجاه المواقف تستطيع أن تسأل ذاتك بصدق :
لماذا فعلت ما فعلته؟ وما الذي كنت أحاول اثباته أو الهروب منه؟ وكيف أثرت كلماتي أو مواقفي على الآخرين؟
ورغم أن هذه الأسئلة قد تكون مزعجة أحيانًا، إلا أنها تساعدك في تشكيل أساس وعيك والذي ستبني عليه شخصيتك المتزنة والناضجة.
من خلال هذا الوعي، تتحوّل من دائرة اللوم إلى دائرة التعلّم والنمو.
أنت لا تكتفي بالسؤال “من المخطئ،ومن المصيب ؟” بل تتخطى ذلك بسؤالك لذاتك: “ماذا يمكنني أن أفعل بشكل أفضل في المستقبل؟”
وبدلاً من أن تُلقي اللوم على نشأتك، أو شريكك، أو مجتمعك، تبدأ في تسليط الضوء على ما يمكنك تغييره من داخلك:
وتبحث عن فهم لطريقة تفكيرك، وتتقبل استجابتك للمواقف أو رفضك لها ، وتتعرف على أسلوبك في التعبير عن نفسك، وعن قيمك التي تختار أن تتصرف بها.
تحمُّل المسؤولية لا يعني أن تكون مثاليًا، بل أن تعترف بوجه القصور وأن تعمل على احداث التحسن المستمر في بناء مفاهيمك ومواقفك .
كما أن تحمل المسئولية يجعلك قادر على التحرر من عقلية الضحية، والانتقال إلى عقلية مسئولة عن الأداء الايجابي والنمو ، وسوف يصبح كل تجربة خاطئة فرصة للتعلم، وليس سببًا للوم الذات.
ممارستك التسامح مع نفسك، أحد الفوائد التي تحصل عليها عندما تتحمّل مسؤوليتك، فلن تُعاقب نفسك على أخطائك، بل ترفق بذاتك وتفكر في دفعها للأمام.
عندما ترغب في فهم طرق التغيير عليك التوقف عن الانكار أو جلد الذات ، ومن خلال النظر إلى نفسك على انك تمتلك ذكاء ومرونة التعلم والتطور باستمرار .
عندما نتحدث عن الشخصية، لا نقصد شيئًا ثابتًا لا يتغير، بل بنية ديناميكية تتشكل وتنمو من خلال توظيف تجاربك وقراءة قراراتك.
>حين تتحمّل مسؤولية تطوير شخصيتك، تدرك أن نضجك العاطفي ليس أمرًا عشوائيًا، بل هو نتاج جهد مستمر لتغيير شعورك تجاه ذاتك.
وبناء التوازن النفسي لا يأتي بمعض الصدفة، بل يتطلب منك التفاعل المستمر مع أفكارك ونظرتك الى تحمل مسئولياتك والقيام بالتفكير النقدي ، وضبط الانفعالات، وممارستك فن التواصل، والتفاوض وايجاد حلول للاختلافات .
إن مهارة التفكير الحر لا تُكتسب فجأة، بل تُبنى تدريجيًا، ومن خلال وعيك الكامل بعناصر قوتك وعناصر ضعفك، والعمل المستمر على استبدال مواقع الضعف وتحسين أداءك.
لنأخذ مثلا شخص يعاني من العصبية في تعامله مع الآخرين.
>قد يبرر غضبه بالقول إنه “عصبي بطبعي” أو أن “الناس لا يفهموني”، لكن عندما يتقل مفاهيم تحمل المسئولية تجاه الذات، يبدأ في تحليل أسباب توتره والبحث عن حلول لتهدئة نفسه.
وبدلاً من الاستمرار في اللوم أو التبرير، يتوجه نحو تحسين نفسه باستخدام أدوات مثل الاستعانة بمختص نفسي، أو تطبيق تقنيات التحرر من الانفعالات ، أو تعلم كيفية إدارة لحظات انفعالاته بشكل أفضل.
في هذا المسار، لا يتغير سلوكه فقط، بل تتشكل شخصيته أيضًا بطريقة تقود الى احساسه بالهدوء والاتزان الوجداني ، مما يمنحه القدرة على التعامل مع المواقف بهدوء ووعي أكبر.
ان تحمُّلك المسؤولية لا يقتصر على نفسك فقط، بل يمتد إلى علاقاتك أيضًا.
عندما تدرك أنك مسؤول عن طريقة تواصلك، واختياراتك العاطفية، وتقبل وضع حدود لشخصيتك ، وتقبل حدود شخصيات الاخرين تصبح أكثر قدرة على بناء علاقات صحية ومتوازنة.
ولا تنتظر من الآخرين أن “يتغيروا أولًا”، بل تبدأ التغيير من داخلك، وتضع نمطًا جديدًا للتفاعل يقوم على مبدأ اظهار الاحترام المتبادل والوضوح العاطفي والتعاطف أو المودة والحب ، وبهذه الطريقة تضمن خلق بيئة إيجابية تتيح لك وللجميع النمو والتطور.
كلما أصبحت أكثر وعيًا بمسؤوليتك عن نفسك، شعرت بقدر أكبر من الحرية في اختياراتك. ولم تعد مجبرًا على العيش في ظل توقعات الآخرين أو ضغوط المجتمع، بل أصبحت قادرًا على رسم مسار حياتك بناءً على قيمك، ووعيك الذاتي، وأهدافك.
مثل هذا الوعي يمنحك مفتاحًا للسلام الداخلي، ولأنك لم تعد تنتظر من الاخرين اعطاءك المشاعر التي تحتاجها ولان مشاعر الأمان لا تنبع الا من داخلك.
من الناحية المعرفية العقلية ، تشير الدراسات إلى أن تحمل المسؤولية الذاتية يُقلل من أعراض القلق والاكتئاب، ويزيد من شعور الشخص بالتحكم في حياته.
ذلك لأنه يُحفز مناطق العقل العصبي والمرتبطة بالتحكم التنفيذي، واتخاذ القرارات، وتقييم السلوك. وبمعنى آخر، المسؤولية الذاتية ليست مجرد قيمة أخلاقية، بل هي عملية بيولوجية تساهم في تعزيز صحتك العقلية والعصبية، وتساعدك على بناء قدرة أكبر على مواجهة التحديات.
في الواقع، ليس الجميع ينشأ في بيئة تشجع على تحمّل المسؤولية، ولكن ما يميز الشخص الواعي هو قدرته على اختيار هذا النهج في أي لحظة.
تحمّل المسؤولية ليس مقتصرًا على فئة معينة، بل هو متاح لكل من يمتلك الشجاعة للتوجه نحو ذاته، ويمتلك رغبة حقيقية في النمو والتطور.
ان هذه القدرة على الاختيار هي الذي يُمكّنك من إعادة تشكيل مسارات حياتك، مهما كانت البيئة التي نشأت فيها.
بامكانك اعتبار أن لتحمل المسؤولية عن نفسك وشخصيتك هو البداية الحقيقية للنضج والتحرر الداخلي.
تحمل الأعباء ليس مجرد قرار، بل هو تحول عميق في طريقة تفكيرك ونظرتك لحياتك. وعندما تتحمل مسؤولية أفكارك، ومشاعرك، وتصرفاتك في المواقف، تبدأ في التحرر من قيود اللوم والانتظار، لشئ سوف يحدث وتصبح فاعلاً في تشكيل واقعك.
فكلما مارست هذه المسؤولية بوعي، زادت قدرتك على بناء حياة متناغمة ومليئة بالسلام الداخلي، والاتزان، والنمو المستمر.